الطب ورمضان
الطب في محراب رمضان
قال صاحبي: مالكم معشر الأطباء إذا أقبل رمضان شمرتم عن سواعدكم وبدأت يراعاتكم تدبج المقال تلو المقال عن آثار الصيام الصحية والنفسية إلى آخر ما تقولونه في هذا المجال ؟!
قلت لصاحبي: كأنك تريد أن تقول:
إن الله تبارك وتعالى حينما كتب علينا الصيام جعل العلة في ذلك هي تقواه !
قال صاحبي: أجل .
قلت: حقا إن الله تبارك وتعالى حينما كتب علينا الصيام جعل العلة في ذلك هي تقواه عز وجل , ولكنك إذا قرأت معي قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون } [ البقرة : 183- 184 ]
إذا قرأت معي هذه الكلمات المباركة وجدت أن رحمة الله بعباده بادية في تيسيره على أصحاب الرخص , ولكنه يشير بعد ذلك في رقة بالغة إلى أن في الصيام خيرا.
وفي محراب هذا الخير.. وعلى ضوئه الرباني نتحدث إن شاء الله كاشفين بعض آثار الصيام الصحية والله المستعان .
على أننا حين نفعل ذلك لسنا من الذين يطيرون وراء نظرية علمية جديدة لم تصل إلى درجة اليقين العلمي ثم يقولون:
ها هو القرآن يوافق أحدث النظريات العلمية , ولو لم يكن من عند الله ما وافقها. وقد يكون وراء هذا القول ما وراءه من فهم متسرع ولي لأعناق النصوص القرآنية في محاولة أشبة(بالاستجداء) العلمي لإثبات إعجاز القرآن وأنه من عند الله تعالى.
ولكن المعنى الذي نلح عليه وندعو إليه على صفحات هذه المجلة وغيرها:
أن القرآن يلقي ضوءا على حقيقة علمية في طي آية من آياته , وعلى الباحثين والكاتبين أن ينتفعوا بهذا الضوء في التوجه نحو تلك الحقيقة ثم الكشف عن روائع قدرة الله وبدائع صنعته فيها من غير أن يلووا أعناق الآيات ليؤكدوا صدق القرآن { ومن أصدق من الله حديثا } ؟
وعليهم وهم يفعلون ذلك أن ينزلوا العلم من عليائه وأن يقفوا خاشعين في محراب القرآن لأن ما عندهم من العلم إنما هو هبة من منزل القرآن , ولو شاء لحبس عنهم عطاءه وأمسك رزقه , ولكنه { ربك الأكرم * الذي علّم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم }
ولعلك أدركت يا صاحبي المنطلق الذي ننطلق منه - ونحسبه صواباً بإذن الله - وهيا بنا نعد آثار الصيام الصحية.
أولاً : بالنسبة للمخاوف والاضطرابات العصبية والنفسية
كثير من الناس حينما يتعرضون للمخاوف على اختلاف أنواعها وتعدد مصادرها - خصوصاً المصابون بالاضطرابات العصبية والنفسية - ترتفع نسبة هورمون يسمى هورمون(الأدرينالين) في دمهم وهو الهرمون الذي تفرزه الغدتان الكظريتان اللتان تقعان فوق الكليتين ويؤدي ذلك الهرمون إلى زيادة في معدل ضربات القلب وارتفاع ضغط الدم واتساع حدقة العين وارتفاع معدل السكر في الدم مما يؤدي إلى ظهور السكر في البول وقد يتم تحليل البول في مثل هذه الظروف ويقال لصاحب التحليل إنك مريض بالسكر(البو ل السكري) وهو خطأ لأنها حالة عارضة تزول بسببها.
وقد يصاب الشخص بارتعاش اليدين والشفتين وتلعثم في كلامه بالإضافة إلى ما سبق ويشير علم النفس الحديث على الأشخاص الذين يصابون بهذه الأعراض عند مواجهة المخاوف والمواقف المزعجة إن يواجهوها وبطونهم خاوية !
وقد أثبتت التجارب الطبية أن الصيام ينظم إفراز الهورمونات المختلفة , ومن بينها هورمون الأدرينالين وبالتالي يلطف من حدة تأثيرها كما أنه يمنح الأعصاب قوة على تحمل الصدمات ويهدئ المشاعر. وكل ذلك يؤدي بالطبع إلى الشعور بالارتياح والسرور والقدرة على مواجهة مثل هذه المخاوف دون أن تترك أسوأ الآثار.ودع عنك هؤلاء الذين يثورون لأتفه الأسباب في نهار رمضان , وذلك لأن بشاشة الإيمان لم تخالط قلوبهم , ولم يتذوقوا حلاوة الصيام , ثم يلقون اللوم على رمضان وصيام رمضان , ويشجعهم على ذلك قولة بلهاء هازلة ألا وهي : " لا تؤاخذوا الرجل إنه صائم ".
أما المرضى النفسيون الذين يشكون من عدم السيطرة على النفس أو الإحساس بالاختناق والضيق في حالة الاكتئاب النفسي فإن الصيام يعودهم على ضبط النفس وترويضها على احتمال الجوع والعطش , وحينما ينجح المريض في ذلك يكون قد بدأ العلاج النفسي بالفعل ,ويشعر بالثقة في نفسه وبقدرته على مغالبة القلق والاكتئاب والخوف من المجهول ,وقد يكون الصيام أجدى وأنفع من مئات العقاقير في علاج هؤلاء المرضى .
ثانيا : بالنسبة للغريزة الجنسية
حينما يتأمل الإنسان قول رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم : ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج , ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) .
حينما يتأمل الإنسان هذا القول البليغ لا يملك إلا أن يحني الرأس إجلالا لقائله الذي كشف عن دور الصيام في تهذيب الغريزة الجنسية والتسامي بها حتى لا يتحول الإنسان إلى حيوان كل همه إن يشبعها ولو من الحرام.
والمعروف علميا أن النظرة المحرمة والكلمة الآثمة واللمسة المجرمة والعطر الملعون ينبه المراكز العصبية الموجودة في المخ والمسؤولة عن الجنس. وهذه بدورها ترسل إشاراتها بطريقة فسيولوجية (وظيفة) إلى الغدد الجنسية المسؤولة عن إفراز الهورمونات الجنسية لتفرغ دفعة منها في تيار الدم تلهب الغريزة الجنسية وتنبه الأعضاء والأجهزة التناسلية ويدور التفكير ويتوقف الشعور داخل الدائرة الجنسية أو لا يكون هناك استعداد لدى بقية المراكز العصبية لاستقبال أي أمر خارج نطاق هذه الدائرة الخبيثة.
وتظهر خطورة ذلك على الشباب المراهق الذي تتحول المثيرات المتعددة من حوله إلى سوط يلهب غريزته ويحيله إلى عبد لها وعندئذ يضعف تركيزه الذهني وينطفئ نور عقله , وربما أخفق في عمله أو دراسته ثم يندم بعد ذلك ولا حين مندم.
ويزداد الطين بله لمن يرغبون في الزواج ثم تضيق أمامهم أبوا ب الحلال في صورة مغالاة في المهور بعيدة كل البعد عن روح الإسلام , وفي صورة احتفالات تغضب الرحمن وترضي الشيطان , وفي صورة أزمة طاحنة تسمى أزمة المساكن بعد إن تحول بعض أصحاب البيوت إلى تجار أزمات ومصاصي دماء.
وهنا يأتي دور الصيام في التسامي بالغريزة الجنسية وإطفاء نارها لأن الصائم بحق تصوم جوارحه عن الحرام فعينه لا تقع عليه لأنه يعلم أن عين الله ترى عينه وأولى به أن يستحيي منه جل وعلا , وأذنه لا تسمع الكلمة الماجنة , ولسانه يمسك عن الفحش , ويده لا تمتد إلى ما يغضب الله , وأنفه لا يشم به ريحا خبيثة , وقلبه مشغول بذكر الله وتسبيحه وتلاوة كتابه. وحينئذ تنقطع الدائرة الجنسية الخبيثة من أولها فلا مثيرات ولا تنبيه للمراكز العصبية ولا هورمونات، بل يهدئ كل ذلك ويصبح الإنسان في حالة طبيعية تساعده على التفكير الهادئ والتركيز فيما تحت يده من أعمال.
ونتيجة لهذا التهذيب الغريزي يصبح الفرد حذراً من الوقوع في دائرة الحرام، وهنا ينشأ لديه رد فعل شديد في عقله الباطن يدفعه إلى الترفع عن الموبقات والفرار من المنكرات على اختلاف صدورها، ومجاهدة نفسه حتى يظل على طهارته وعفته بعد أن ذاق حلاوة الطهارة والعفة بفضل الصيام.
وعلى ذلك فقد اثبت الصيام أن الغريزة الجنسية قابلة للتهذيب والتربية والاعلاء على عكس ما يحاول أن يشيعه تجار الشهوات والسماسرة والأعراض من تهذيب هذه الغريزة يؤدي إلى الكبت الجنسي والعقد النفسية، وتفريجاً لذلك الكبت وحلاً لتلك العقد لا بد من إشباع تلك الغريزة بأية وسيلة.
وهنا نسأل هؤلاء الأفاكين:
هل انفرج الكبت وانحلت العقد في مجتمع إباحي كالمجتمع السويدي ؟!
ثالثاً : بالنسبة لمرض السكر
المعروف طبياً أن مرض السكر يرتبط ارتباطاً كبيراً بالغذاء كما كماً ونوعاً، وبالوراثة أيضاً .. فهو أكثر انتشاراً في الأشخاص البدينين وفي بعض العائلات التي لا تزوج ولا تتزوج من خارجها، وهنا تظهر عظمة التوجيه النبوي في الترغيب بالزواج من غير الأقارب.
( اغتربوا لا تضووا ) (الضوى: الهزال).
ومما يتطلبه علاج مرض السكر: الالتزام بنظام غذائي معين، وهو الإقلال من النشويات والسكريات، وقد تتحسن حالة المريض نتيجة ذلك الالتزام ولا يحتاج إلى عقاقير كما هو مشاهد من واقع الممارسات العملية. ولهذا يعتبر الصيام من أنجع الوسائل في علاج مرض السكر إذا لم يسرف المريض في المواد النشوية والسكرية عند إفطاره وسحوره.
وربما يسأل بعضهم: أي حالة من حالات مرض السكر هي التي يسمح فيها بالصيام ؟
ونقول بصفة عامة:
إن الحالات المسموح بها في المريض بالصيام هي الحالة البسيطة والمتوسطة من المرض والتي ليست معها مضاعفات وتكون مصحوبة بزيادة في وزن الشخص عن المعدل الطبيعي أو في حدود العادي. ولا بد من استشاره الطبيب المعالج ليكون رأيه هو الفيصل بالنسبة لشخص الراغب في الصيام.
رابعاً : بالنسبة للسمنة وآلام المفاصل
يؤدي الإفراط في تناول الطعام والشراب إلى زيادة الوزن وما ينتج عن ذلك من مضاعفات مثل ارتفاع ضغط الدم، تصلب الشرايين والتهابات الحوصلة المرارية، وقد يكون لعامل الوراثة دور في زيادة الوزن. وينصح الأطباء كل من يرغب في إنقاص وزنه أن يتبع نظاماً غذائياً معيناً خلاصته: الإقلال من النشويات والسكريات والأملاح والدهون مع الإكثار من الخضروات والبروتينات وممارسة أبسط أنواع الرياضة - وهو المشي - وعلى ذلك يكون الصيام من أهم العوامل التي تساعد على إنقاص الوزن بشرط عدم الإسراف في وجبتي الإفطار والسحور وما بينهما.
وتخف آلام المفاصل تبعاً لذلك، كما ينخفض ضغط الدم وتقل نسبة التهابات الحوصلة المرارية ولكن المؤسف أن وزارات التموين في حكومات المسلمين تعلن الطوارئ بمناسبة حلول رمضان، وكان رمضان شهر الإسراف في الطعام والشراب لا شهر الصيام.